فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (14):

قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما دخل النصارى فيما مضى لأنهم من بني إسرائيل، خصهم بالذكر لأن كفرهم أشد وأسمج فقال: {ومن الذين قالوا} أي مسمين أنفسهم ملزمين لها النصرة لله، مؤكدين قولهم ردًا على من يرتاب فيه: {إنا نصارى} أي مبالغون في نصرة الحق، فالتعبير بذلك دون ومن النصارى تنبيه على أنهم تسموا بما لم يفوا به {أخذنا} أي بما لنا من العظمة {ميثاقهم} أي كما أخذ على الذين من قبلهم.
ولما كان كفرهم في غاية الظهور والجلاء، لم ينسبهم إلى غير الترك فقال: {فنسوا} أي تركوا ترك الناسي {حظًا} أي نصيبًا عظيمًا يتنافس في مثله {مما ذكروا به} أي في الإنجيل مما سبق لهم ذكره في التوراة من أوصاف نبيه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الحق.
ولما أدى ذلك إلى تشعبهم فرقًا، فأنتج تشاحنهم وتقاطعهم وتدابرهم، سبب عنه قوله: {فأغرينا} أي ألصقنا بعظمتنا إلصاق ما هو بالغراء لا ينفك بل يصير كجزء الشيء {بينهم} أي النصارى بعد أن جعلناهم فرقًا متباينين بتفريق الدين، وكذا بينهم وبين اليهود {العداوة} ولما كان العداوة قد تكون عن بغي ونحوه إذا زال زالت أو خفت، قال معلمًا أنها لأمر باطني نشأ من تزيين الهوى، فهو ثابت غير منفك: {والبغضاء} بالأهواء المختلفة {إلى يوم القيامة}.
ولما أخبر بنكدهم في الدنيا، أعقبه ما لهم في الأخرى فقال: {وسوف ينبئهم} أي يخبرهم {الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا إخبارًا بعظيم الشأن بما فيه من عظم التقريع والتوبيخ في الآخرة بوعيد لا خلف فيه؛ ولما كانت خيانتهم قد صارت لهم فيها ملكات بما لازموا منها حتى ضربوا بها وتدربوا عليها، حتى صارت لهم أحوالًا لأنفسهم وأخلاقًا لقلوبهم، سماها صنائع فقال: {بما كانوا يصنعون} أي دربوا أنفسهم عليه حتى صار كالصنعة، فيجازيهم عليه بما يقيم عليهم من الحجة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

المراد أن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند الله، وإنما قال: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} ولم يقل: ومن النصارى، وذلك لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله تعالى، وهم الذين قالوا لعيسى {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} [آل عمران: 52] فكان هذا الاسم في الحقيقة اسم مدح، فبيّن الله تعالى أنهم يدعون هذه الصفة ولكنهم ليسوا موصوفين بها عند الله تعالى، وقوله: {أَخَذْنَا ميثاقهم} أي مكتوب في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتنكير {الحظ} في الآية يدل على أن المراد به حظ واحد، وهو الذي ذكرناه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا الكثير مما أمرهم الله تعالى به لأن هذا هو المعظم والمهم، وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء} أي ألصقنا العداوة والبغضاء بهم، يقال: أغرى فلان بفلان إذا ولع به كأنه ألصق به، ويقال لما التصق به الشيء: الغراء، وفي قوله: {بَيْنَهُمْ} وجهان: أحدهما: بين اليهود والنصارى.
والثاني: بين فرق النصارى، فإن بعضهم يكفر بعضًا إلى يوم القيامة، ونظيره قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] وقوله: {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وعيد لهم. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} وذلك أن الله تعالى لما ذكر حال اليهود ونقضهم الميثاق، فقال على أثر ذلك إن النصارى لم يكونوا أحسن معاملة من اليهود، ثم بيّن معاملتهم فقال: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} {أَخَذْنَا ميثاقهم} في الإنجيل، بأن يتبعوا قول محمد صلى الله عليه وسلم {فَنَسُواْ حَظًّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} يعني تركوا نصيبًا مما أمروا به في الإنجيل من اتباع قول محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال: نقضوا العهد كما نقض اليهود، ويقال إنما سموا أنفسهم النصارى لأنهم نزلوا قرية يقال لها «ناصرة»، نزل فيها عيسى عليه السلام فنزلوا هناك وتواثقوا بينهم، ويقال: إنما سموا النصارى لقول عيسى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصارى إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله ءَامَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].
ثم قال: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة} يعني ألقينا بينهم العداوة {والبغضاء} ويقال: الإغراء في أصل اللغة الإلصاق، يقال: أغريت الرجل إغراءً إذا ألصقت به.
ويقال: إن أصل العداوة التي كانت بينهم ألقاها إنسان يقال له «بولس»، كان بينه وبين النصارى قتال، وكان يهوديًا فقتل منهم خلقًا كثيرًا، فأراد أن يحتال بحيلة يلقي بينهم القتال ليقتل بعضهم بعضًا، فجاء إلى النصارى، وجعل نفسه، أعور وقال لهم: أتعرفوني؟ فقالوا: أنت الذي قتلت منا وفعلت ما فعلت، فقال: قد فعلت ذلك كله وأنا تائب، لأني رأيت عيسى ابن مريم في المنام نزل من السماء، فلطم وجهي لطمة وفقأ عيني.
فقال: أي شيء تريد من قومي؟ فتبت على يده، وإنما جئتكم لأكون بين ظهرانيكم، وأعلمكم شرائع دينكم، كما علمني عيسى في المنام فاتخذوا له غرفة، فصعد تلك الغرفة وفتح كوة إلى الناس في الحائط، وكان يتعبد في الغرفة، وربما كانوا يجتمعون إليه ويسألونه ويجيبهم من تلك الكوة، وربما يأمرهم حتى يجتمعوا ويناديهم من تلك الكوة، ويقول لهم بقول كان في الظاهر منكرًا وينكرون عليه، فكان يفسر ذلك القول بتفسير يعجبهم ذلك، فانقادوا كلهم له وكانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به.
فقال لهم يومًا من الأيام: اجتمعوا قد حضرني علم، فاجتمعوا، فقال لهم: أليس قد خلق الله تعالى هذه الأشياء في الدنيا كلها لمنفعة بني آدم؟ قالوا: نعم، فقال لم تحرمون على أنفسكم هذه الأشياء؟ يعني الخمر والخنزير وقد خلق لكم ما في الأرض جميعًا، فأخذوا بقوله واستحلوا الخمر والخنزير، فلما مضى على ذلك أيام دعاهم وقال: حضرني علم.
فاجتمعوا وقال لهم: من أي ناحية تطلع الشمس؟ فقالوا: من قبل المشرق.
فقال: ومن أي ناحية يطلع القمر والنجوم؟ فقالوا: من قبل المشرق.
فقال: ومن يرسلهم من قبل المشرق؟ قالوا: الله تعالى: فقال: فاعلموا أنه من قبل المشرق فإن صليتم له فصلوا إليه، فحول صلاتهم إلى المشرق، فلما مضى على ذلك أيام دعا طائفةً منهم وأمرهم بأن يدخلوا عليه في الغرفة.
وقال لهم: إني أريد أن أجعل نفسي الليلة قربانًا لأجل عيسى، وقد حضرني علم وأريد أن أخبركم في السر لتحفظوا عني وتدعوا الناس إلى ذلك.
ويقال أيضًا إنه أصبح يومًا وفتح عينه الأخرى ثم دعاهم وقال لهم: جاءني عيسى الليلة، وقال: قد رضيت عنك، فمسح يده على عيني فبرئت، فالآن أريد أن أجعل نفسي قربانًا.
ثم قال لهم: هل يستطيع أحد أن يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟ فقالوا: لا.
فقال: إن عيسى قد فعل هذه الأشياء، فاعلموا بأنه هو الله.
فخرجوا من عنده.
ثم دعا طائفة أخرى فأخبرهم بذلك أيضًا، وقال: إنه كان ابنه ثم دعا بطائفة ثالثة وأخبرهم بأنه ثالث ثلاثة، وأخبرهم بأنه يريد أن يجعل نفسه الليلة قربانًا، فلما كان في بعض الليل خرج من بين ظهرانيهم، فأصبحوا وجعلوا كل فريق منهم يقول: قد علمني كذا وكذا.
وقال الفريق الآخر: أنت كاذب بل علمني كذا وكذا، فوقع بينهم القتال فاقتتلوا وقتلوا خلقًا كثيرًا وبقيت العداوة بينهم {إلى يَوْمِ القيامة} وهم ثلاث فرق، فرقة بينهم النسطورية قالوا المسيح ابن الله.
وصنف منهم يقال: لهم الماريعقوبية قالوا: إن الله هو المسيح.
وصنف يقال لهم: الملكانية، قالوا: إن الله ثالث ثلاثة المسيح وأمه والله.
فأغرى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
ويقال: ألقى بينهم العداوة بالجدال والخصومات في الدين، وذلك يحبط الأعمال.
وقال معاوية بن قرة: إياكم وهذه الخصومات في الدين، فإنها تحبط الأعمال.
ثم قال: {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} يعني: ينبئهم في الآخرة الذي هو على الحق. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {يا أهل الكتاب} لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرحم وغيره إنما حفظت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره، وقال محمد بن كعب القرظي: أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع وقوله: {رسولنا} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفي الآية الدالة على صحة نبوته. لأن إعلامه بخفيّ ما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يصحب القرأة دليل على أن ذلك إنما يأتيه من عند الله تبارك وتعالى، وأشهر النوازل التي أخفوها فأظهرها الله على لسان نبيه أمر الرجم، وحديثه مشهور. ومن ذلك صفات محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك. و{من الكتاب} يعني من التوراة وقوله: {ويعفو عن كثير} معناه ويترك كثيرًا لا يفضحكم فيه إبقاء عليكم. وهذا المتروك هو في معنى افتخارهم ووصفهم أيام الله قبلهم ونحو ذلك مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم فيه وتكذيبهم، والفاعل في {يعفو} هو محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يستند الفعل إلى الله تعالى وإذا كان العفو من النبي عليه السلام فبأمر ربه، وإن كان من الله تعالى فعلى لسان نبيه عليه السلام، والاحتمالان قريب بعضهما من بعض.
قوله عز وجل: {نور وكتاب مبين} يحتمل أن يريد محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهذا هو ظاهر الألفاظ، ويحتمل أن يريد موسى عليه السلام والتوراة، أي ولو اتبعتموها حق الاتباع لآمنتم بمحمد، إذ هي آمرة بذلك مبشرة به. اهـ.